الأسباب الموجعات …. في ما يؤلم الجامعات
النائب الدكتور نضال قطامين
وددت قبل النيابة بعقدين من الزمن، ان انثر اوراق الجامعات الاردنية على الملأ، كي يرى الناس كيف تدار هذه المؤسسات الوطنية احيانا بخليط من النرجسية والفوقية الفارغة، وعجين من إدارة الظهر والمحسوبية ونكران الجميل، ولكني كنت اتريّث قبل كل بَدْءْ، ظنّاً أن هذه الإدارات ستعود الى اهدافها....دون جدوى.
فقد قفزت بعض الادارات…..قديمها وجديدها - بالجامعات من ادوارٍ في التنمية، الى ادوار في التقوقع وتقزيم العلم والعلماء، ومن دور للجامعات ريادي ومستنير، الى شهادات عليا في تخصصات الالتصاق بالكراسي وفنون اللعب على الحبال…..وكان عنوانها على الدوام، ان الانجاز ليس بالضرورة ان يكون تحدياً للأعجاز، لكنه الايمان بقضاء الحكومات وقدرها، والاستسلام للواقع الموجود، مع ابواق دعائية جاهزة ومتأهبةٍ دوما لعمل خليطٍ مُسَكّن، مقاديره زبد الوعود وعسل الكلام...
وحين تنشأ الجامعة - اي جامعة - فان اول هدف من اهدافها وأول واجب من واجباتها، هو تنمية الانسان والمجتمع، فيوضع لهذا الهدف الكثير من الخطط والبرامج، وتلقى له الكثير من الخطابات وتعقد الكثير من المؤتمرات والندوات، ولكنه في النهاية لا يغادر أدراج المكاتب ولا عقول المخططين، واليوم وبعد عشرات السنين من تجربة الناس للجامعات الرسمية وحتى الخاصة منها، ادركوا اخيرا ان الجامعات كلها على الاطلاق، لم تحقق من هذا الهدف شيئا، وان انجازاتها في هذا المجال، لم تساوي حبر خططها وحبر اوراقها.
ويتساءل الناس في مجمل تساؤلاتهم، عمّا حققته هذه الجامعات على الارض، فمديونية الجامعات الرسمية في أسوأ حالاتها، ورواتب العاملين والأساتذة مرهونة بوزارة المالية، فيما تنعم الجامعات الخاصة التي تدار بعقول استثمارية ناجحة، بالملايين، ولا ينتظر كشف الراتب فيها تأشيرة الوزير ولا توصية الأمين العام، فيما فرص تدّر الملايين على الجامعات الرسمية، ضائعة مضيّعة.......ورؤساؤها الذين لا شغل شاغل لبعضهم الا المياومات والجمع بين الراتبين والقتال دون ذلك، سادرون في سباتهم.
أين رؤساء الجامعات من الطلبة العرب والأردنيين العائدين من مصر وليبيا واليمن وسوريا، لمَ لمْ نسمع ولو رئيس جامعة واحد، فكّر باستحداث دائرة للأزمات، ليستقطب عشر هؤلاء الطلبة على الأقل لرفد هذه الجامعات اقتصاديا وحل أزماتها المالية، في ضوء طاقة جامعته الاستيعابية.
.كيف يمكن للناس أن يصدقوا أن آلافا من حملة الدكتوراه في الجامعات عاجزون عن السير بجامعاتهم اقتصاديا وإداريا......سواء بجذب الاستثمارات لها او بالتفكير بحلول ناجعة لقضايا المجتمع المتزايدة كالفقر والبطالة وثقافة العيب التي اجبرت الوطن وتجبره على عمالة وافدة تستنزف منه سنويا عشرات الملايين من العملة الصعبة، أو التصدي لدراسات تعنى بموائمة الخريج لسوق العمل، ودراسة ملفات العنف المجتمعي والجامعي الشائكة، والذهاب بعيدا للوقوف على اسباب البيروقراطية وسياسات الاستعراض التي تمارسها الوزارات كالسياحة مثلا، وفتح ملفات قضايا المجتمع المؤرقة التي استوطنتنا فاستسلمنا لها مثل الفساد والواسطة والمحسوبية والوحش الكاسر المسمى حوادث السير ......وحتى ظاهرة اطلاق العيارات النارية.
.كل هذا مطلوب من نخب المجتمع الثقافية والسياسية والاساتذة الجامعيون مكوّن رئيسي لها، ان يتصدوا له، ويضعوا ايديهم على الجروح.
وادرك تماما في هذا السياق، قدرة النخب الجامعية من الاساتذة على الوقوف على العلل، مثلما ادرك ايضا مدى القمع والتكبيل الذي تمارسه بعض الادارات على المبدعين، واجبارهم على الدخول في بوتقة التدريس فقط دون منحهم فرص الانطلاق نحو قضايا المجتمع وعلاجها، ولقد تعرضّت شخصيا لهذا النموذج من الدكتاتوريات، وقاتلت كثيرا لأجل قضاياً كثيرة منها حوادث السير، ولكني كنت اجبر في كل محاولة على العودة للمسمى الذي يحاولون به تعطيل العلم وتعطيل انتفاع الناس به.... استاذ جامعي فقط.
واعود الى اسئلة الناس عن الجامعات..
ألا يكفي سببا للانتقاد ان تُخَرّج الجامعات أجيالا غير جاهزة لسوق العمل؟ ماذا فعلنا للتنسيق الأفقي بين الجامعات الهادف الى الحد من تكرار التخصصات التي يتكدس خريجوها بطالة وفقرا؟ ماذا عن خطط الجامعات لمواجهة نقص هيئة التدريس؟ أين برامج الإيفاد التي توزع إن وجدت على المحاسيب في ظل حاجة ملحة لضرورة توفير الفي عضو هيئة تدريس للجامعات حتى تصبح نسبة اعضاء هيئة التدريس للطلبة ضمن اسس الاعتماد، كيف يمكن أن اقبل بجامعة ليس فيها برامج للدكتوراه - هل يدرك المسؤولون في هذه الجامعات أهمية استحداث برامج الدكتوراه التي تجعل البحث العلمي عنواناً للجامعة ولافتةً لها، وتعيد الهيبة لكلمة الجامعة، بكل ما فيها من رقي وثقة واعتماد، والا فليكن اسم الجامعة التي لا تعنى ببرامج الدراسات العليا والدكتوراة خصوصا، مؤسسة تعليمية فقط دون كلمة الجامعة.
في كل جامعات الدنيا، تتبارى الجامعات أيها يدر دخلا أكثر على موازنات دولهم، إلا جامعاتنا، فإنها تتبارى أيها يسبق ليأخذ أعطية الحكومات......أين رؤساء الجامعات من أعضاء هيئة التدريس الذين يهربون من رواتبهم المتاكلة ويتركون الجامعات الحكومية والخاصة إلى جامعات تعرف من هم وما وزنهم الأكاديمي، أين هم من بنى الجامعات التحتية التي تقادم عليها الدهر، ولم تعد القاعات والمباني قادرة على استيعاب تزايد اعداد الطلبة، فخرجت منتجات التعليم في أدنى مستوياتها، كم أهّلت الجامعات أساتذةً وحملة دكتوراه ليكونوا مستشارين لمؤسسات الدولة، سعيا لاستفادة الوطن من علمهم وخبراتهم .....لا احد.
اما البحث العلمي، فحدّث ولا حرج، فهو ليس من الأولويات الهامّة، وإلا كيف نفسر عدم وجود جامعة عربية في تصنيف شنغهاي، وعلى ذكر الجامعات العربية فلم يعد ذكرها يسر الصديق ولا يغيض العدا فابتعدت بذات الاسباب التي ذكرت والتي سترد عن طرق التميز ودروب الابداع، أمّا خريجو جامعاتنا في الميدان، فهم لا يعكسوا في الغالب تميزا علميا فريدا، وحين تنظر الى الأساتذة والجهابذة الذين كنّا نفاخر بهم الدنيا، ترى مدى التهميش واللامبالاة والقمع الذي تمارسه بعض الإدارات عليهم، وغير بعيد عنا ذاك الخبر الذي تحدث عن استغناء احدى الجامعات عن الاساتذة الذين تجاوزوا السبعين..... ياللاهتمام.....هل يتقاعد العلم ايها العباقرة...هل عملت يا سيدي رئيس الجامعة على تهيئة جيل اخر يخلف هؤلاء الجهابذة؟ هل من بديل لناصر الدين الأسد ومحمود السمرة وعبد السلام المجالي ورفاقهم، في ظل تهميشكم وقمعكم، وفي ظل سياسات التشريد التي يمارسها بعضكم؟
ماذا عملت الجامعات للبحث العلمي أساس وجودها وقواعده؟ كيف واجهت قضية تمس أساس البحث العلمي وهي الأبحاث الجاهزة التي تسوقها الدكاكين والمتاجر، والتي ساهمت في إغلاق آفاق البحث العلمي لدى الطلبة مثلما ساعدت في تشميع أدمغتهم وإقفالها؟ ماذا صنعت لملء أوقات فراغ الطلبة بنشاطات لا منهجية تدرأ عنهم موبقات العنف وأسبابه؟ ماذا صنعت لأعضاء هيئة التدريس من طرق للإبداع؟ كيف كان استعدادها لتكون صروحا علمية لا مدارس ثانوية مختلطة فحسب؟ هل يكفي ان يوقع الأستاذ الرئيس على الخطط الدراسية وجداول الرواتب، في معزل عما يحتاجه الطالب والاداري وعضو هيئة التدريس؟ لماذا لم يسعَ الرؤساء الى تفعيل دور الجامعة في ان تكون وعاء لثقافة المسيرات والاعتصامات والمظاهرات، وان تتصدى لدورها الاول في التماس مع المجتمع ومع الشارع وتشخيص حاجاته؟
ننتظر خلال فترة وجيزة، قبول عشرات الالاف من الطلبة في الجامعات، فتقفز للذاكرة، مشاهد السلبية التي تمارسها ادارة الجامعات في الاستعداد لأستقبالهم، وسوء تقديرهم لاعداد الطلبة، فالقاعة التي انشئت لثلاثين طالبا، بقيت كما هي ليطلب منها استيعاب خمسين، وعضو هيئة التدريس الذي كان يحاضرعشرين شخصا، زيد عبئه الدراسي ليصبح محاضرا لأربعين، بينما بقي راتبه وبقيت امتيازاته، كما هي دون ان يدرك المسؤولون في الجامعات ان عضو هيئة التدريس هو الاساس في نشأة الجامعة وتميزها، فوجد الاستاذ الجامعي المميز والمجتهد ان حقّه مغبون، وان جهده غير مقدر، فبدأ عند ذلك مسلسل الاستقالات وإجازات التفرغ العلمي، والإعارة والانتداب وفقدان الوظيفة، هروبا نحو من يقدر الجهد ويقابله بالتكريم، فانعكس ذلك على مستوى الجامعات الأكاديمي، وشهدنا تراجعا حادا في المستويات المتميزة لجامعاتنا ومخرجات التعليم في المجمل..
ماذا عن دور رؤساء الجامعات، ماذا عن رؤساءٍ غير تقليديين يحملون رؤية التغيير والتقدم بمعزل عن الجهوية والفئوية، ماذا عن قيادات تحمل الى جانب الشهادات العلمية رؤية القائد وشروطه، ارفع شخصيا قبعتي احتراما لنماذج في الاقتصاد الوطني أسهموا فاعلين في رفعته وتميزه، وليس لديهم درجات الأستاذية، وليس لدي مانع على الإطلاق أن تدرس تجربة عطا علي وجبري مثلا في قيادة مؤسساتهم الى النجاح والتميز، ونستفيد كثيرا إذا علمنا أولادنا تجارب عبد الحميد شومان وأمثاله الكثر، في العصامية والنجاح، انا لا اريد في مؤسسة يفترض بها التقدم وريادة الأمة، أكاديميا يمضي عمره بين الخطط والخطب ولا يستطيع تطبيقها على الأرض، فهذا النموذج يعيد إنتاج الأزمات التي نحاول تجاوزها، في جامعات الدول المتقدمة لا تأتي رتبة الأستاذية كشرط لمنصب الرئيس، بل توضع القيادة الاقتصادية قبل كل شيء........... ماذا عن رؤساء يحملون دور القائد المتحرك الذي لا يعرف مكتبه الا بعد مغادرة اخر طالب؟ ان من اهم عوامل نجاح الجامعات، اعتمادها على رؤساء يقدرون دورهم في اعلى الهرم الاداري للجامعة، فيسيرون بالجامعة كلها اعضاء هيئة تدريس وطلبة واداريين، سيرا غير تقليدي بعيدا عن النمط الحكومي التقليدي للموظف الذي لا يزال للأسف يحكم جامعاتنا.
اين الرؤساء الذين يمكنهم إيجاد القدرات والكفاءات القادرة على النهوض بواقع الجامعات، ماذا يعني كون رئيس الجامعة رئيسا لها، هل يطلب منه تصريف اعمال الاداريين وتوقيع الاجازات والرواتب، ام يطلب منه دور اكبر يتعدى ليكون جزءا هاما من صانعي التنمية؟
سأورد مثلا واحدا لكيفية ممارسة الجامعات لدورها في تنمية الناس وتنمية الوطن والحد من بطالة خريجيها وفقرهم وعوزهم الذي سيبلغ بهم حد الكفر بها وبإداراتها،......أعلنت احدى الجامعات الرسمية عن حاجتها لعدد من الوظائف... وبدلا من ان تعلن ذلك للناس بالوسائل التي تعوّد كل الاردنيين عليها، كالصحف والتلفاز والاذاعة، فانها ولاسباب غير معروفة، اكتفت باعلان خجول على موقعها الالكتروني، مفترضا ذاك العبقري الذي اقترح ذلك ويقينا انه لم يضع رئيس جامعتة بصورة ما أقترفه، أن كل الأردنيين قد شبعوا خبزا وفاضت لديهم الدنانير فامتلكوا الحواسيب واشتركوا بخدمة الانترنت بل ويمضوا سحابة يومهم وليلهم يتصفحوا موقع الجامعة....واخبارها ... وهي طريقة في الاعلان لا تبدو لي بريئة ومشكوك فيها، فضلا عن الشروط المثيرة للجدل التي تضمنها الإعلان، في أن يكون لدى المتقدم خبرة ثلاث سنين مشمولة بالضمان الاجتماعي، وان يكون تقديره جيد جدا على الاقل...وان يصل برجليه الى الجامعة ليقدم الطلب فيها... ماذا عن أولئك الذين قدم أهلهم الأرض والمال كي يخرجوا بتقدير جيد، ألا بواكي لهم؟ أليس ثمة كوتا لهم، أم أنهم سيبقوا أسرى لحظ آبائهم وحظ جغرافيتهم البائس، ويبقوا يدفعون ثمن سكناهم في عمراوة ودلاغة وفي السلع، بعيدا عن شوارع الوكالات وعبدون..... ألا ما أتعس حظكم يا أبناء الحراثين....
هذا نموذج في أساليب الجامعات، أسلوب نمطي قديم، غير آبه بما يجري، ولا يعرف الفرق بين الذين يستطيعون ان يروا الجامعة كل ساعة، وأولئك الذين يَسْرُونَ من اول الليل، ويستقلون ثلاث حافلات للوصول لها.
لم يعد هناك ملجأ لذوي الاقنعة، والشارع يطلب فيما يطلب عدالة وإنصافا، مثلما يطالب أبناء الطفيلة وأبناء الرمثا باجرة سيارة استأجروها كي يقدموا طلبا للتوظيف.... ففاجأهم موظفٌ في الجامعة قائلاً: (( آسفْ، لا تقديرك جيدٌ جدا، وليس لديك مناسف......)).
رابط المقال:
http://www.ammonnews.net/article.aspx?articleNO=94386