Skip Ribbon Commands
Skip to main content

Dr. Abdelnaser Hayajneh

:

News: إعلان لجميع الطلبة/ اللغة العربية.. التشريع والقضاء- مقال مفيد وممتاز للمحامي الأستاذ فهد أبو العثم

News Title

إعلان لجميع الطلبة/ اللغة العربية.. التشريع والقضاء- مقال مفيد وممتاز للمحامي الأستاذ فهد أبو العثم

News Date

2/26/2012

News Details

 
 

 

اللغة العربية.. التشريع والقضاء

 

المحامي فهد أبو العثم / الرآي

اللغة هي وعاء الأفكار وأداة التعبير عنها، ذلك أن المفاهيم التشريعية والآراء القانونية إنما يتم التعبيرُ عنها من خلال اللغة سواء كانت ألفاظاً ومعاني أو جملاً ومباني.
ولما كان فهمُ التشريع والإحاطةُ بمعانيه، وتحديدُ مقاصده وغاياته يكون لا بمعرفـة اللغـة فحشب، بل بإتقانهـا، باعتبار أن التشريع يتمثل في قواعدَ مسكوبةٍ في قوالبَ لغويةٍ ومبادئَ موضوعيةٍ في إطار لغوي، فإن إتقان المشرعين والمشتغلين في عالم القانون للّغة الوطنية ضروري، وأمرٌ حتمي كذلك، وإن القاضي لا يمكن أن ينهض بمسؤولياته إن لم يكن كذلك أيضاً.



ونعني باللغة هنا اللغة الرسمية الفصيحة، وإن كان معرفة القاضي للّهجات المحلية في المنطقة التي يمارس فيها وظيفته أمراً مهماً.
لما كانت الأحكام القضائية عنواناً للحقيقة، ولأن اللغة هي وسيلة الإيصال والاتصال، فإن العناية باللغة في الأحكام القضائية تغدو مهمة أهمية الحقيقة نفسها، لأن الحقيقة في الأحكام يُعبَّر عنها من خلال اللغة، إذ تأتي الأحكام القضائية مفسرة للنصوص القانونية بمناسبة تطبيقها على الوقائع، بل إن المنطق يشكل في معظم الأحيان وسيلة إقناع واقتناع في مضمون الحكم القضائي، هذا المنطق إذا لم تكن وسيلته اللغة السليمة فإنه لن يؤدي مهمته (م. موسى الأعرج، بحث الرأي القانوني، ص 22).
إن إعمال قواعد الإقناع والاقتناع هو الذي يضفي المصداقية الحقيقية للأحكــام القضائيــة، وهـذه تقــوم بشكــل أسـاسي على توظيف الأسلـم والأصح في صياغة الأحكام، هذه الصياغة التي تمثل الصورة التي تظهر فيهـا ما توصلت إليـه المحكمـة من قناعـة، وهذه القناعـة تختلف باختلاف الصياغة، فالصياغة إذن هي المعبرة عما توصلت إليه المحكمة من قناعة (م.موسى الأعرج، لغة الضاد بين النظرية والتطبيق).
وكثيراً ما وقفنا على حالاتٍ تكتنفها أخطاء قضائيةٌ وإجرائية فاضحة جراء فقدان هذه المعرفة، ولا يعني ذلك صدوداً من القاضي أو المشرع عن إتقان لغةٍ ثانية بالإضافة إلى لغته الأصلية، بل العكس، هو أمرٌ مستحب ومستحسن في تأهيله، لأن من شأن ذلك اطلاعه على تجارب الآخرين واستفادتهُ من ثقافتهم، فضلاً عن أنه يوسع الإدراك ويقوي ملكة التحليل والمقارنة  (م.موسى الأعرج، بحث الرأي القانوني، ص 22).
من هنا كان إتقانُ اللغة العربية أحدَ المهارات الأساسية المطلوبَ توفرُها في من يمارس القضاء والتشريع، ولعل لغتنا العربية من أقوى اللغــات في التعبيــر، وبـالتـالي في الإقنـاع.
ولمـا كـانـت عمليـة تسبيب الأحكام القضائية وتعليلِها تهدف إلى حد كبير إلى الإقناع، فإن تحقيق هذا الهدف لا يكون إلا باستعمال مستوى اللغة وقوتها (م.موسى الأعرج، بحث تسبيب الأحكام في الأردن، ص2 3-22).
ليس هذا بالنسبة للقاضي فقط، ولكن المحامي جديرٌ أيضاً بأن يحسن استعمالَ وسيلة الاتصال في مرافعاته وآرائـه القـانـونيـة، خـصوصا أن الصياغة القانونية للنصوص تعتمد المعنيين اللغوي والاصطلاحي، وأن الوصولَ إلى رأي في الذهن شيءٌ والتعبيرَ عن هذا الرأي شيء آخر (م.موسى الأعرج، بحث الرأي القانوني، ص 21).
إن أعمال المحاماة تحتاج إلى القدر نفسه من العناية والاهتمام إن لم يكن أكثر، فإذا كانت مهمة القاضي تفسير النص القانوني وإفراغ هذا التفسير في شكل حكم قضائي، فإن مهمة المحامي أكثر لزوماً لاستعمال المنطق والتعبير من خلال اللغة.
اللغة وسيلة التعبير عن آراء المشرع والقاضي، وهذه الآراء تظهرُ من خلال مفردات اللغة وتعابيرها، إذ إن أول ما يجب أن يتبادر للذهن عند محاولة فهم النص وتَفسيرِه هو فهمُ المعنى اللغوي ثم الاصطلاحي لألفاظ النص وعباراته، أي المعنى الذي تؤديه مباشرة ألفاظ اللغة وتعابيرُهاـ سواء كانت هذه المعاني حقيقية أو مجازية.
فعندما ينص قانون العمل مثلاً على أنه «يجوز للعامل إثباتُ حقوقه بجميع طرق الإثبات»، فإن المعنى المباشرَ المستفاد من هذا النص هو مبدأُ حريةِ الإثبات بالوسائل كافة، ولا يحتمل النصُّ أي تفسير أو تأويل آخر.
فبقدر تضلُّع المشرع والقاضي في معرفة اللغة العربية تكون قدرتـه على فهــم النصـوص وإدراكِ معانيهـا القريبـة والبعيــدة. وليس معنى ذلـك أن يعـرف الواحـدُ منهـم اللغـة َمعرفـةَ أئمتهـا، وإنما يكفيه منها القدرُ اللازم لفهم النصوص التشريعية فهماً سليماً يمكنه من معرفة المرادِ منها.
ومن جهة أخرى، قد يكون النص التشريعي واضحَ الدلالة بشأن حالة أو حالات معينة، ولكنه لا يشمل حالةً أو حالاتٍ أخرى هي من باب أولى، إلا أن العلة في هذه الحالة أو الحالات الأخرى واضحةٌ، فمثلاً: تنص المادة (1042/1) من القانون المدني الأردني على أنه «يشترط لصحة القسمة قضاءً، أن تتم بطلب من أحد أصحاب الحصص المشتركة». فمن باب أولى أن طلب القسمة المقدم للمحكمة من جميع أصحاب الحصص المشتركة هو طلبٌ مقبول، ولا يقالُ إنه ليس هناك منازعةٌ في القسمة.
وقد يكون عكس ما يقضي به النص صالحاً لأن يكون حكماً في مسألة هي عكس الحالة التي يحكمها النص، وهو ما يعرف بمفهوم «المخالفة». فمثلاً: تنص المادة (231) من القانون نفسه على أنه «إذا بطل الشيء بطل ما في ضمنه». ومفهوم المخالفة أنه «إذا صح الشيء صح ما في ضمنه».
نخلص من هذا أن لغةَ التشريعِ والتقنين يجب أن تكونَ مصاغةً بعبارات بسيطة شديدةِ الوضوح محكمةِ البناء، ويتأتى هذا باستخدام الجملِ القصيرة ذات التركيب السلس.
وفي هذا السياق يمكن القول إن الطبيعة َالخاصة للغة التشريع والتقنين والتي تميزها عن غيرها، يغلب عليها استخدامُ زمن المضارع، كأن يقال مثلاً: «يلغى القانون» أو «يُنشأ بموجب هذا القانون... إلخ»، وذلك كله بهدف إعطاء أمرٍ تشريعي.
وكذلك استخدام الفعل بصيغة الإيجاب بدلاً من النفي، فمثلاً في قانون المقاييس والمواصفات وبدلاً من النص «يجب أن لا يكون المنتج غير مطابق للمواصفات»، فإن الأصح أن يكون النص: «يجب أن يكون المنتج مطابقاً للمواصفات والمقاييس... إلخ».
*
أهمية اللغة في مسيرة الحضارات
لقد كان للغةِ العربية شأنُها الكبير في مسيرة الحضارات بما لها من خصائصِ العراقة في تكوينها وسلامة أصولها وغزارة مفرداتها وانفتاحها على التطور، وهي خصائص جعلها تتشرف بنزول القرآن الكريم معجزةً خالدةً من الهداية والبلاغة وقيم الحق والخير، حتى إن تواصـلَ تطورهـا يفصـح عن نهضـة الأمة ويبشر بأن تكون اللغة العربيـةُ أساس وحدة الأمة في الفكر والتشريع ومَصدرَ الهداية لوحدتها الكبرى. وتزداد أهميتها سواء في التعويل عليها في التربية والتعليم، أو في الإعلام، أو الفقه، أو التشريع والقضاء.. إلخ. وبالتالي، فهي ًالجسرُ الذي بواسطته نعبر إلى حضارة الأمم وتراثها المعرفي والثقافي والتشريعي.
*
دور اللغة في تنمية المعرفة والتشريع
اللغة العربية مفتاحٌ لمغاليق المعرفة، فهي تجعل المرء متصلاً ببيئته، كما يكون بمقدوره متابعة ما تصل إليه العلومُ والآداب من تجديد وتحديث. وهي قبل ذلك وبعده تلعب دوراً مهماً في حياة الأمم وتاريخها، لأن اللغة هي الأمة كما قال العلامة فيخته: «اللغة والأمة أمران متلازمان ومتعادلان». ويقول الإمام الحصري: «إن الأمم تتميز بعضها عن البعض في الدرجة الأولى بلغاتها، وإن حياة الأمم تقوم قبل كل شيء على لغاتها». وهو يؤكد أهمية اللغة بوصفها مخزن ذخائر الشعب بقوله: «إن لغة َالآباء والأجداد مخزنٌ لكل ما للشعب من ذخائر الفكر والتقاليد والتاريخ والفلسفة والدين. إن قلب الشعب ينبض في لغته، وإن روح الشعب تكمن في لغة الآباء والأجداد».
ولم يشهد التاريخُ على مر العصور لغةً ذاع صيتها وكثر الناطقون بها، وتسنمت ذروة المجد في المعارف الإنسانية، مثل ما شهدته اللغة َالعربية التي تمثل أداة التواصل حين نكتب وحين نتحدث وعند ممارسة لغة الصحافة والإعلام.
*
اللغة العربية والدستور:
قلنا إن اللغة َالعربية وعاءُ الفكر وقوامُ النص وبيتُ الأفكار، لذا فإن اللغة التي يصاغُ بها الدستور تتحكم في تحديد مفاهيمه وبيان مقاصده. لكن لغة َالدستور تختلف عن لغة التشريع، فالأولُ بحكم تربعه على قمة النظام القانوني يستخدم لغة تعلو في خطابها ومضمونها على لغة التشريع، فلا تلجأ إلى التفصيل حتى تفسحَ للتشريع سلطة الملائمة وفق الظروف والمقتضيات بخلاف لغة التشريع، فإنها أكثرُ تحديداً لما تعبر عنه.
كما أنها بدورها يجب أن تعلو في مضمونها على لغة الأنظمة واللوائح التي تهتم بالتفاصيل الدقيقة من أجل تنفيذ مضمون التشريع.
وتختلف لغة الدستور في تحديد أهدافها ومراميها عن لغة البرامج السياسية للحكومات أو الأحزاب أو التكتلات التي تقوم على العبارات الفضفاضة.
ولقد عني الدستور الأردني بالتعبير عن مكانه اللغة العربية داخلَ مؤسسات الدولة، مثلما أوضح دعائم مكانة اللغة العربية حين نص في المادة (2) على أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية».
وإذا كان هذا البحث ليس معنياً مباشرة بالشق الأول من هذه المادة، إلا أن اللغة العربية متضمَّنة في هذا الشق، لأن العلاقة بين الإسلام والعروبة وطيدة، فاللغة العربية لغة القرآن، والقرآن هو الذي رفعها وحفظها، وهو ما يرتب العلاقة بين لغة الدولة وعقيدتِها الدينية الرسمية باعتبار أنها لغة ُالقرآن الكريم.
وإعمالاً للقيمة الدستورية للغة العربية، فقد كانت لغة ُالمحاكم هي اللغة العربية، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يرتبط تراثنـا القـانـوني والقضـائي بلغتنا العربية الفصحى، فتكون هذه اللغة ُفي المرافعات القضائية والأحكام من أرفع اللغات بلاغةً ورصانة.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أنه ليس من قبيل المصادفة أيضاً أن كان محامونا وقضاتنا ورجال القانون في ما مضى، ذوي حاسة لغوية مميزة ومرهفة ومستوى راقِ من القدرة على التعبير.
وفي هذا السياق، ورد النص على أهمية «العربية» والتعويل عليها في كثير من المنظومة القانونية، ومن ذلك ما جاء بخصوص قانـون التحكيـم، بأن يجري التحكيـم باللغـة العربيـة ما لم يتفق الطرفان خلاف ذلك، وهو ما نصت عليه المادة (28) من قانون التحكيم رقم 31/2001 بقولها: «يجري التحكيم باللغة العربية ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك... إلخ».
ونصت المادة (4) من قانون التربية والتعليم على أن «اللغة العربية ركن أساسي في وجود الأمة العربية وعامل من عوامل وحدتها ونهضتها....». كما أشارت المادة (9) منه إلى أن: «مرحلة التعليم الأساسي تهدف إلى أن يكون الطالب متقناً المهارات الأساسية للغة العربية بحيث يتمكن من استخدامها بسهولة ويسر». وأشارت المادة (11) منه إلى أن: «مرحلة التعليم الثانوي تهدف في نهايتها أن يكون الطالب قادراً على استخدام اللغة العربية في تقرير قدرته على الاتصال وتنمية ثقافته العلمية والأدبية ومراعاة مقومات البناء اللغوي للغة وتذوق فنونها».
ونصت المادة (3) من قانون التعليم العالي والبحث العلمي (رقم 23/2009)، على أن «التعليم العالي يهدف إلى اعتماد اللغة العربية لغة علمية وتعليمية في مراحل التعليم العالي وتشجيع التأليف العلمي بها والترجمة منها وإليها واعتبار اللغة الإنجليزية لغةً مساندة»
ونصت المادة (3) من قانون رعاية الثقافة (رقم 36/2006) على أن «تتولى وزارة الثقافة تعزيز الاهتمام باللغة العربية الفصيحة وتوظيفها في مختلف مجالات الحياة».
ونصت قوانين الجامعات الأردنية ذوات الأرقام (52/1972، 25/1985، 17/1997)، على أن «اللغة العربية هي لغة التدريس في كليات الجامعة».
ونص قانون مجمع اللغة العربية الأردني (رقم 40/1976)، في المادة (4) منه، على أن المجمع مكرس لأهداف من بينها «الحفاظ على سلامة اللغة العربية وجعلها تواكب متطلبات الآداب والعلوم والفنون الحديثة».
كما نص في المادة (5) منه على الوسائل التي يحقق المجمع من خلالها أهدافه ومن بينها: «القيام بالدراسات والبحوث المتعلقة باللغة العربية»، و»نشر المصطلحات الجديدة التي يتم توحيدها في اللغة العربية بمختلف وسائل الإعلام».
ورغم صراحة النصوص الدستورية والقانونية هذه، فليس بالدستور والقانون وحدهما يتم الحفاظُ على اللغة العربية وضمان نهضتها وسموها، وإنما تحيا اللغة وتزدهر بإبداع الجماعة الناطقة بها في شتى المجالات ومناحي العلوم.
فالمدرسة تعدّ المؤسسة الأولى المعول عليها في تعلم اللغة وغرس مبادئها وتعلق نفوس الدارسين بها من خلال المدرس المؤهل والمنهج المعتمد للتدريس، ولست في موقع الحكم على مدرس اللغة العربية ولا على المناهج المعتمدة، ولكن مخرجات التطبيق تنبئ عن أن اللغة العربية على ألسنة أجيالنا الصاعدة التي بدأت تتبوأ قيادات المجتمع، أصبحت لغة ركيكة مشوبة بعيوب في اللفظ والمعنى مختلطة ًبرطانةٍ من لغات أخرى.
وفي الإعلام والإعلان، فإن الصورة تلقي بظلالها على العديد من الأخطاء التي تُرتكب بحق اللغة، إلى المدى الذي أصبحت معه لغة بعض وسائل الإعلام لغة «عامية»، ناهيك عن الإعلانات التجارية والاجتماعية مثل «القرض الشخصي بيحلّي حياتك»!
حتى في المخاطبات الرسمية والقرارات الإدارية، يمكن أن نلاحظ العجب العجاب في مفردات اللغة وصياغة جملها، ويمكن القطع أن ما من كتابٍ أو قرارٍ يصدر إلا ويحتوي غالباً على خطأ إملائي أو في النحوِ أو الصرف. ومن ذلك كتابٌ صادرٌ عن جهةٍ رسميةٍ عليا يقول محرره بالحرف الواحد: «فلم يعد هنالك مبرراً لإبداء أي رأي قانوني بخصوصهِ».
*
اللغة في الوقت الحاضر:
على أنه من الملاحَظ أنه أصبح واضحاً في الآونة الأخيرة وفي ميدان القانون والقضاء عدمُ الاهتمام بالتعرف على أصول الصياغة القانونية، علماً أن الصياغة المعيبة يمكن أن تؤدي إلى منازعات بل وإلى خسارة الدعوى من جانب الطرف الذي يفسَّر النصُّ لغير صالحه، وبالمثل يمكـن أن يؤدي القصور في الصياغة إلى استغلال الخصم لما يعتورها من عيوب لكسب الدعوى لصالحه.
ومن خلال معايشتي للعمل القضائي حقبة طويلة من الزمن، فقد لاحظـت في الآونــة الأخيــرة أن بعض المعنيين بالقـانـون يعتقدون أن موضوع اللغة والاهتمامَ بها يخرج عن دائرة اهتمامهم، وربمــا يفســر ذلك نـدرة َما كتب حوله، حتى إن المكتبة العربية تكاد تخلو من أي مؤلفات معمقة في هذا الموضوع. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الصياغة َالتشريعية أهم أنواع الكتابات القانونية، فهي التي تحدد الحقوق وتفرض الواجبات والالتزامات وتخول الصلاحيات والامتيازات.
من هنا فإن الصياغة هذه يجب أن تتسم بالسهولة والبساطة، وأن تخلو أيضاً من المحسنات والأساليب البلاغية، حيث أنها تُلحق غموضاً بالمعنى قد يكون مطلوباً في لغة الأدب، لكنه من المحرمات في اللغة القانونية.
وفي هذا أسوق قولاً للفقيه الكبير د.عبدالرزاق السنهوري يقول فيه: «يجب أن تكون لغة التقنين واضحة ودقيقة، فاللغة المعقدة تجعل القانون مغلقاً، كما أن اللغة غير الدقيقة تجعل القانون مبهماً» (د.إسكندر غطاس، بحث مقدم حول التقنين المدني المصري سنة 1998،  ص 2).
إن المراقب لاستعمال اللغة العربية في أيامنا هذه يرى –بكل أسف- أن خطراً يواجهها الآن يهب من التآكل العام للغــة الفصحى وغياب الإلمام بها وبمعانيها ونحوها وصرفها، وهذا التآكل المريع لا تحتمله المواد القانونية والأحكام القضائية، بالإضافة إلى ما نلاحظه في مدارسنا وجامعاتنـا من تصرفـات مهينة مع اللغة. فلقد اطلعت على كتابات لطلبة جامعيين يؤدون إجاباتهم باللغة العامية، وإذا طُلب منهم الالتزام بالنحو والصرف كانت الإهانة أبلغ والأسف والحزن أعمق.
ومن الأمثلة على انتهاك حرمة اللغة انتهاكاً صريحاً يهدد حتى وجودها، أن استاذاً جامعياً طرح سؤالاً في الامتحان النهائي على طلبة السنة الثانية أو الثالثة يطلب فيه إعراب جملة «إن التشبه بالكرام فلاح».
فجاءت الإجابة لدى الكثيرين منهم على النحو التالي:
إن: حرف جر.
التشبه: اسم مجرور.
ب: حرف جر.
الكرام: اسم مجرور.
فلاح: فاعل مجرور.
بينما أجاب البعض الآخر منهم:
إن: نصب.
التشبه: فاعل منصوب.
بالكرام: مجرور
فلاح: مفعول به.......
وفي عالم القضاء والقانون تالياً بعض الأمثلة:
-
لم يرتضي المدعيين بهذا القرار.
-
وعن السبب الأول الذي يخطئ فيه المستأنفين المحكمة.......
-
وبخصوص اللائحتين الاستئنافيتين المقدمتان.......
-
إعادة قيد العقار باسم المستأنفان.
-
وهو ما يعتبر مخالفاً لأحكام الماديتين اللتان أوجبتا على المحامي.....
-
أن يكون النص التشريعي المطعون فيه مخالف للدستور.
-
وحيث أن مدة الطعن هي ستين يوماً.
-
حيث لم يبنى على وقائع صحيحة.
-
تحتفظ المدعية بتقديم أية بينات ترا معها المحكمة.
-
فإن مخالفة المستدعى ضدهما الوزيران.
-
حيث أن القرار مخالفاً لأحكام المواد......
-
فيكون الاستئناف المقدم منهما بتاريخ 3/8/2011 مقدم.....
-
وقد حضر مزاودين عدة....
-
وقد قاما المستأنفان بدفع مبلغ.....
*
تغيير الحكم المقرر نتيجة الخطأ في اللغة:
وردت الجملة التالية في حكم قضائي: «وقد أيد المدعيين الخبير..... إلخ».
في ضوء ورودها بهذا الشكل فهذا يعني أن «الخبير» (وهو فاعل مؤخر)، هو الذي أيد «المدعيين» (مفعول به مقدم)، وهو ما ليس وارداً عند مصدر القرار. علماً أن سياق الحكم والمضمون المراد قضاؤه هو أن الخبير أيده المدعيان، وكان ينبغي أن ترد العبارة كالتالي: « وقد أيد المدعيان الخبير.... إلخ».
هذا الذي أشير إليه آنفاً ليس مشكله المحامين والقضاة وحدهم، لكنه مجرد عينة لمستوى خريجي الجــامعــات الذين انتقـلوا مـن الأميــة اللغويــة في مراحــل التعليـم الأولى إلى مستـوى الأميـة في الجامعات التي لا تعير أي اهتمام للغة العربية، بل أصبحت تتباهى بأنها تدرس طلبتها باللغة الأجنبية، الأمر الذي صدم الغيورين على لغتهم الفصحى، وهنا أذكر قولاً للأستاذ (المرحوم) حسن البرقاوي: «والله كلما سمعت خطأ نحوياً فكأن سهماً وُجّه إلى جسدي».
ومن أمثلة انعدام الوعي اللغوي لمعاني الحروف، والتي تؤدي إلى أحكام مخالفة تماماً لما أراده المشرع، النص على أن:
- «
على العضو المنتدب أو سكرتير الشركة المسجلين أن يودع لدى قسم الشركات البيانات... إلخ».
- «
يجب أن يكون الطبيب والممرضة حاضرين... إلخ».
ففي الأول استعمل حرف «أو» بمعنى أنه يجوز لأي من الشخصين أن يودع البيانات وليس ما يوجب أن يودعها الاثنان.
وفي الثاني استعمل حرف «و» بمعنى أنه يجب على الاثنين أن يكونا حاضرين وليس الاكتفاء بواحد منهما.
في هذا المثال يبدو جلياً كيف أن مقاصد الأحكام مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بلغة التعبير ومعاني حروفها.
إن هذا الذي نلاحظه في صياغة بعض تشريعاتنا وأحكامنا من جهة، وفي إعلامنا ومحاضراتنا ومؤتمراتنا الصحفية من جهة أخرى، يعدّ مذبحـة حقيقيـة للغـة العربيـة تتبعها مذابح كبيرة وخطيرة، في هوية الأمة وعنوان حضارتها وفي تراثنا وتاريخنا، كما أنه يشكل طعناً في مضامين الأحكام القضائية وانحرافاً واضحاً عن مرادها ومقاصدها، وبالتالي صفعة موجعة ومدمرة لتاريخنا.
مع ذلك نلاحظ كثيراً من عبارات الاستخفاف بالتمسك بهذه اللغة، وعدم المبالاة في الالتزام بأصولها وسلامتها من أناس أوتوا قدراً من المسؤولية، وهم غارقون ببحور الجهل وقصور المعرفة، بعيدون عن الحس بالمسؤولية، غير محيطين أو مدركين لتبعات هذه الجهالات، الأمر الذي يرتب علينا جميعنا -سياسيين وإعلاميين ومشرعين وقضائيين- أن ننفض غبار هذه المواقف المخزية لنعيد للغتنا ألقها وأصالتها وقوتها، ولنحول دون دمار هذه الأمة وحضارتها بل ووجودِها.
على أنه إذا تتبعنا المشكلة في أساسها فسنجد أن انحطاط اللغة الفصحى له أسبابٌ عدة، منها تراجع مؤشرات الاعتزاز بالهوية والكبرياء الوطني، إذ إن انحطاط اللغة يظل من تجليات الانحطاط الثقافي والهزيمة الفكرية والحضارية، ولذلك قيل «إن اعوجاج اللسان علامة على اعوجاج الحال».
وفي ظل أجواء الهزيمة اللغوية هذه ينتعش الغلاة والمتعصبون المعادون للغة الفصحى الذين جرى احتلال ألسنتهم باللغة الأجنبية، وتراهم يتباهون بجهلهم الفاضح بأبجديات اللغة العربية الفصحى.
*
غاية الأجنبي من حصار اللغة العربية
لقد ظلت العربية لغة العلم العالمي لأكثر من عشرة قرون، بها كُتبت الإبداعات العلمية والمواريث الثقافية والحضارية، ومنها أخذت أوروبا المنهج التجريبي والعلوم الطبيعية.
لكن الكارثة التي عاشتها لغة القرآن الكريم اليوم، أن العلوم الإنسانية والطبيعية أصبحت تدرَس بلغات أجنبية، ما أدى إلى حصار العربية لتكون غريبة في ديارها.
ويمثل هذا التحول مخططاً استعمارياً أُريد من ورائه عدمُ الاكتفاء باحتلال الأرض ونهب الثروة، وإنما احتلال العقل أيضاً.
ومن الأقوال الأجنبية المؤيدة لدور تغريب اللغة في الغزو والاستعمار، ما جاء على لسان «بول موقلان» أحد كبار اليسوعيين: «إن تعلم الناس لغتنا -الفرنسية- لا يعني مجرد أن تألف ألسنتهم وآذانهم الصوت الفرنسي، بل إنه يعني فتـح عقولـهـم وقلوبهـم على الأفكار والعواطف الفرنسية حتى نجعل منهم فرنسيين، إن هذه السياسة تؤدي إلى فتح بلد بواسطة اللغة».
*
دور مجمع اللغة العربية في الحفاظ عليها:
لا يسع المرء إلا أن يذكر بالتقدير والعرفان دورَ مجمع اللغة العربية الذي يرأسه عالم جليل ما فتئ يكافح توضيحاً وتبصيراً لهذه الأجيال، وينـافح ذوداً عن حيـاض لغتنـا، ولا بد من الإشادة بجهود الأسـاتـذة والبـاحثين الأفـاضـل وهـم يحرصون عليها ويمدونها بما يجعلها قادرة ًعلى التخلص مما لحق بها من أدران، وأصابها من تشوهات بحيث تعود إليها قدرتُها على استيعاب المستجدات الحياتية والمتغيرات الاجتماعية، رغم ما يحيق بالوطن العربي من تيارات مشبوهة تريد أن تجعله منضوياً تحت مظلة العولمة، التي بدأت تذر بمفاهيمها الموبوءة، وأخذت تنتقل إلى لغة الأمة وثقافتها، وفي هذا ما فيه من خطورة ماحقة، ليس فقط على مسار حياتنا، وإنما على وجودها وبقائها.
إن مشروع القانون المقدم من مجمع اللغة العربية للمحافظة على سلامة اللغة ليس بدعاً، فهناك العديد من الدول التي وضعت تشريعاً للحفاظ على لغتها، فالعراق مثلاً أصدر سنة 1977 «قانون الحفاظ على سلامة اللغة»، والجزائر سنة 1991، وهو ما فعلته فرنسا بإصدار القوانين التي تحمي لغتها.
والاقتراح هنا إعادة دراسة مواد هذا القانون وتحديثه في ضوء المتغيرات المجتمعية، للنأي به عن الأهداف الشكلية، بحيث يكون لهذا التحديث وسائل على أرض الواقع، تربط المجمع بجهات التشريع من جهة، ومؤسسات التربية والتعليم من جهة أخرى.
نحن جميعنا نتحمل مسؤولية الوصول بمشروع القانون إلى مراحله الدستورية النهائية، كل ضمن حدود إمكانياته، فلا نتقاعس عن إيضاح جوانب الأهمية للمشروع لدى الجهات المسؤولة وبيان خطورة العزوف عن إقراره وكشف النتائج المترتبة على إهماله وإغفاله.

 

رابط المقال

http://www.alrai.com/article/6372.html

 

Page Image

 

Attachments

Created at 2/26/2012 9:02 AM by Abdelnaser Hayajneh
Last modified at 2/26/2012 9:02 AM by Abdelnaser Hayajneh